نتفق على أمور إن شاء الله تسبب لنا المداومة على قيام الليل:
1. أول الأمر وأهمه: الحمد على نعمة ثلث الليل الأخير.
لابد أن تشعر أن هذا الوقت مِنّة من الله {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[37]يعني لأزيدنكم -في هذا الموطن- انتفاعًا بهذا الذي حمدتم عليه، فتحمد الله عزوجل وتشكره على أنه جعل هذا الثلث الأخير وقتًا لنزوله -سبحانه وتعالى- وأنت معتقد أنه متكبرٌ مستغنٍ عنك، وأنت الفقير، فتتأمل في المسألة: أنا الفقير وهو الغني وهو ينزل يناديني ! أشكره وأحمده أن جعل هذا الوقت وجعله بهذه الصفة.
2. أحتاج حتى أداوم على قيام الليل الشعور بالفقر التام لله.
فمَن الذي يترك وقتًا ينادي الله فيه؟ المستغني، ولذلك مَن الذي يُيسّر للعسرى؟ الذي بخل واستغنى وكذب بالحسنى، فالذي يستغني عن الله ويشعر أنه هذا الأسبوع لا توجد عنده حاجة ليقوم، أي أنه يقوم في الطوارئ فقط، أو لو كانت هناك مشكلة أو مرض! لو حدث ذلك وقمت فجزاك الله خيرا لكنك لن تدخل في هذا الوصف؛ لأن شرفه قيامه بالليل يعني دوامه على هذا الفعل.
إذا وقفت بين يديه عشرة دقائق فقط فانظر إلى النور الذي سيقع في قلبك، والهداية التي تقع في قلبك، والهموم التي تزاح من نفسك، أمر يفوق الوصف ! مَن ذاق قيام الليل لايستطيع أن يعبّر عنه.
فكن حامدا شاكرا لله على هذا الوقت حتى لو ما قمت، كلما ذُكّرت بقيام الليل احمد الله أن جعل لهذه الأمة قيام الليل، وجعل من صفاته -سبحانه وتعالى- أنه ينزل إلينا، ثم أشْعِر نفسك دائما بحقيقة فقرك وحقيقة حاجتك، وإذا ما استطعت أن تقوم فتعبّد الله بمقت نفسك، مقتها لأنها ثقيلة ليست راضية أن تقوم.
3. تعبّد الله -عز وجل- بعبادة الاستعانة، ولا تعتمد على الأسباب.
فأنت تعاير الساعة، وإذا لم تكن عندك عبادة الاستعانة فستدخل في معركة مع نفسك إذا رنّت الساعة، فإذا اعتمدت على الأسباب ستنام وتترك القيام، فالساعة ترن وتقول لك: هل تريد غفوة؟ وأنت تقول: نعم غفوة 5 دقائق، وتنام، وتعتمد أن الساعة سترن، وتغلقها المرة الثانية، وتغلقها إلى أن يؤذن الفجر! ماذا يقال لك؟ لا تعتمد على الأسباب، إنما كن مستعينًا بالله.
عندما تضع رأسك على الوسادة لا تقل لنفسك: أنا اليوم نمت جيدًا ولست متعشيًا وعايرتُ الساعة فأكيد أني سأقوم، ثم تجد أنك لا تقوم! هذا اعتمادٌ على السبب، عاير الساعة لا مشكلة لكن بشرط أن لا يقع في قلبك أنها هي التي ستوقظك، برغم أنها سبب لكن أحيانا كثيرة السبب يخذلك! فلا تعتمد عليها وهذا أهم شيء، لأنك تعد لنفسك أسبابا ثم تظن أن بها لابد أن تقوم، فهذه لم تصبح أسبابًا إنما اعتماد. ويُمنع أن تعتمد.
أذكّركم قبل أربعة عشر قرن سابقة: كيف كان يقوم الناس؟ اعتمادًا واستعانة بالله. أما نحن فيوم عن يوم نكسل، بل حتى ساعاتنا كسلانة مثلنا وتقول لنا: هل تريدون غفوة؟ حتى ساعاتنا تطبطب علينا. لا تنسوا أن (إياك نعبد) تأتي بعدها (إياك نستعين)، وانظروا ما هي أسباب السلف، ستجدون أن أسبابهم الاستعانة، وأيضا هناك سبب آخر وهي النقطة الرابعة:
4. أكثر مِن الاستغفار.
فكلما أكثرت من الاستغفار فُتح لك أبواب الطاعات.
واعلم أن ما يُفتح لك من باب القيام سر فاحفظه بينك وبين الله، يعني لما يتيسر لك ويُفتح لك لا تتكلم، لا تحكي للناس، اجعلها خبيئة عمل.
الجملة الخامسة في الحديث:
((وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ))
ويؤيد هذا ما أخرجه مسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ))[38] الاستغناء عن الخلق يبدأ من كف البصر عما في أيديهم إلى كف القلب عن التعلق بما في أيديهم، أي بصرك ولسانك وقلبك.
البصر أكبر مشكلة عندنا، ويشترك في هذا الذي يملك والذي لا يملك، فهو يعرّض استغناءه عن الخلق ببصره للهتك، أي أنه بدل أن يصبح مستغنيًا عن الخلق، يصبح في حاجة إليهم. كيف؟ خاطب الله عز وجل نبيه في كتابه -وكل مَن يصلح لهم الخطاب-{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}[39] ما المطلوب منك؟ كف عينيك عما في أيدي الناس، عما متّع الله به الخلق من ملبوس، مال.. أيًّا كان، كُف بصرك عنه، ولا تتبعه بعينيك، لا تتبع أحوال الخلق، ولا ترى هذا عنده ماذا وهذا ماذا عنده.
نحن من كثرة الفتنة الحاصلة، لو كان هنالك مطعم مشهور في البلد والناس تمر عليه، تجدهم يقولون: مثل هذا كم يكسب في الشهر؟ فيقوم بعمل معادلة، ولو مر على مدرسة أهلية مثلا يقول: كم طالب عندهم؟ ويحسب كم يأخذ منهم وكم يعطي المدرسين ثم يخرج الناتج بأن الصافي لهم في السنة كذا وكذا! فهذا مَدّ بصره وفكره وقلبه ويده وكل شيء إلى ما مُتّع به غيره، وغيره قد فُتن بهذا.
المقصد أنك لابد أن تعرف أن عزك هو وقتما ترد بصرك وقلبك ولسانك عن أي شيء عند الخلق.
استسهالنا لهذا الأمر ووضع الأعذار الكثيرة له يسبب أن نفقد عزنا الذي هو من عطايا الله لنا.
مثلا بجانبك امرأة ترتدي ساعة، أو ترتدي خاتم، أو فرشت بيتها .. إلخ، تشعرين أن تقليب بصرك في بيتها شيء طبيعي، وطبيعي أيضا أن تسأليها من أين أتت به، كل هذا عندنا شيء طبيعي وهو ليس بطبيعي، بل أُمِر النبي -صلى الله عليه وسلم- ومَن يصلح له الخطاب ألا يمد عينيه إلى ما مُتع به غيره، وهذا يختلف عن الحسد، هذا بمجرد أن تمد بصرك وتقلب عينيك في الدنيا.
كأنه يقال: عيناك قد خُلقت للتدبر والتفكر فيما يزيدك إيمانا وليس فيما يعلقك بالدنيا.
فنحن من آخر الكلام سنعود لأوله: عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه، فلا تعلق نفسك وتولعها بالدنيا، وتقول: أريد خاتم مثل تلك وساعة مثل تلك وفرش مثل هذا. وهناك مَن يقول: أنا أسأل الناس حتى أوفر بحثي في السوق. نحن سنأتي لأنفسنا بمئة عذر لهذا المد،
المقصود أن تستغني عن الخلق بثلاثة أمور:
1. لا تمد بصرك
2. لا تشغل قلبك
3. لا تطلق لسانك.
اجعل من الحياء أني أنظر للناس وللذي عندهم، استحي يجعلك الله عزيزا.
هذه كلمات تصف الحياة.. حتى تصبح عزيزا عند الناس استغني عن الخلق، استغني عن سؤالك بلسانك، استغني عن النظر ومد البصر، استغني أن تشغل قلبك بأشيائهم، وكلما استغنيت أغناك الله، فمَن يستعفف يعفه الله، ومَن يستغني يغنه الله. أما عكس هذا فزيادة تعلق بالدنيا، في نهاية الأمر مطلوب منك أن تغض بصرك وتصرف قلبك عن الانشغال بما عند الناس وتكف لسانك عن السؤال.
أسأل الله عز وجل أن ينفعني وينفعكم بما سمعتم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.