الآن نأتي إلى ألفاظ الحديث:
((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)).
سنقسم الحديث إلى ثلاثة أقسام:
الجزء الأول: ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ)).
الجزء الثاني: ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي)).
الجزء الثالث: ((فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)).
ما معنى لفظة ((اللَّهُمَّ)) ؟
معناها: يا الله، وقُلبت الياء (يا) ميمًا في آخر اللفظة؛ حتى يُبتدأ مباشرة باسم الله: (اللهم).
لماذا قلبوا الياء إلى ميم في آخر الكلمة ولم يأتوا بأيّ حرف آخر؟
لأن الميم تدلّ على الجمع، فأنت إلهي وإله الناس كلهم.
إذًا (اللهم) في أيّ دعاء معناها: يا الله.
((أَنْتَ رَبِّي)) نلاحظ في الأدعية قول: ((يا رب)) دائمًا، فلماذا؟
"وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِك أَنَّهُ قَالَ: "أَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: يَا سَيِّدِي يَا سَيِّدِي يَا حَنَّانُ يَا حَنَّانُ وَلَكِنْ يَدْعُو بِمَا دَعَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ؛ رَبَّنَا رَبَّنَا"[10].
فنحن نقول: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي))، وفي الفاتحة نقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[11] ولمّا تريد أن تحمد تقول: أحمد الله رب العالمين، ولمّا تريد أن تطلب تقول: يا رب، ولمّا تريد أن تستغفر تقول ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي..)).
فهو ربّنا وهو مالكنا وهو رازقنا وله الأسماء الحسنى، ولنا أن ندعوه بأسماء كثيرة، فلماذا ندعوه بما يدل على الربوبية بالذات؟
ماذا يعني ربّ؟
ربي الذي ربّاني وربّى جميع العالمين بنعمه.
بأن حوّلنا من حال النقص إلى حال التمام في كلّ شيء, فالله عزّ وجلّ يُربّي عباده ليكونوا صالحين.
ماذا نعني عندما نقول للشيء أنه صالح؟
مثل المواد الغذائية وغيرها، أي هذا صالح للأكل.
والذي نقول عنه أن الله ربّاه ليكون صالحًا.
* يكون صالحًا بماذا؟
هو صالح بالعبادة, العبادة مادة صلاحه، أي يصلح بالعبادة.
أليس الإيمان يزيد وينقص؟
بلى، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
كلما زدت طاعةً؛ زدت إيمانًا, أصبحت المادة التي تستقي منها زيادة الإيمان هي الطاعة, فصارت الطاعات هي مادة الصلاح.
* ما معنى أن يكون العبد صالحًا؟
أي: يصلح أن يكون مجاورًا لله عزّ وجلّ في جنّته[12]، ليس كل أحد يصلح أن يكون في جوار الرحمن, لكن العبد يقوم بالطاعات من أجل أن يصلح قلبه، فيصلح قلبه قبل أن يصلح بدنه ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ))[13].
فالقلب هو محطّ نظر الربّ، فيصلح القلب، ومن ثم يكون صالحًا لمجاورة الربّ.
مَن الذي يربّي القلب ويصلحه؟
الله عزّ وجلّ، حيث يخرج من كلّ عبد بما يجريه عليه من أقدار، يخرج منه الفاسد من قلبه ويدخل له الصالح.
هذا هدف مهم! وهو معرفة كيفية التوسّل باسم الربّ؛ لأنّ هذا الاسم -دونًا عن بقيّة الأسماء- تجتمع فيه كلّ مفاهيم الأسماء الأخرى.
أنت تعرف أنّ الله رحمن, تعرف أنه رحيم, تعرف أنه لطيف، تعرف أنه مالك الملك, تعرف أنه رزّاق...، إذًا ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي)) أي: الذي ربّيتني بنعمائك، ونعماؤك بين محبوب تُشكر عليه وبين مكروه أعلم أنك ما أردت به إلا خيرًا.
هذه نعم الله، الله عزّ وجلّ يريد تعليم عبده أنه عنده قدرة على الصبر لكنه لا يصبر، يعلّمه ويدرّبه إلى أن تأتيه المصيبة الكبرى وهو قد تمرّن وتعلّم أنه لابد أن يصبر.
لكن هل كل الناس يقبلون تربية الله؟ الجواب: لا.
تأتي تربية الله للعبد، ويفهمه أن هذا ما حصل إلا لهذا، ويأتي الرزق يطرق الباب, فينسب العبد النعمة إلى فلان الذي أتى بها!
فالله عزّ وجلّ يكرر نذره على العبد ويكرر تربيته له، ومع ذلك العبد كأنه ما سمع ولا رأى.
لذلك قال الله عز وجل: {فَلَمَّا زَاغُوا} ماذا فعل الله بهم؟ {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.
ماذا يعني زاغوا باسم الربّ؟
لم يستجيبوا للتربية, ربنا يربّيهم مرارًا وهم لا يستجيبون، أصرّوا على أن يزيغوا, فلمّا أصرّوا على أن يزيغوا؛ أعطاهم الله عزّ وجلّ على ما يزيدهم زَيغًا.
ولكن {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} هو العبد لم يرضَ أن يتربّى؛ ولذلك نجد أن الله عزّ وجلّ يمدّ في أعمار أهل الكفر؛ علّهم يعتبرون, يمدّ في أعمار أهل الفسق؛ علّهم ينتفعون, لكن سبحان الله! مَن كان في قلبه زيغ؛ مع العمر قد يزداد زيغًا.
فالله عزّ وجلّ إمّا يعامل العباد بفضله، وهو الشكور، وإمّا يعاملهم بعدله، وهو الحليم سبحانه وتعالى.
· "الرزّاق".
لمّا أتاني ما لم يأتِ غيري؛ قلت: أنا مؤمن باسم "الرزّاق", أعطاني ما لم يعط غيري.
لو أتى لغيري ولم يأتني؟!
هنا يتضح هل أنا مؤمن باسم "الرزّاق" أو لا؟
لمّا يأتي لغيرك ما لم يأتك؛ هنا تأتي تربية الله؛ من أجل أنت تعرف نفسك.
نرفع شعار أنّ "الله رزّاق" دائمًا, الله يربّيك من أجل أنك تكتشف ما في قلبك, وتربية الله تصلحك فلمّا تأتي المواقف الحقيقية؛ يربينا فيها قبل أن نموت، ونحن بصحتنا وعافيتنا حتى نكتشف أنفسنا.
· يقول شخص طوال عمره: لو كنتُ في موقف فلان؛ لم أكن حاسدًا لأحد، ولا غرتُ من أحد...
المتلبِّس في الموقف الذي عاش في وسطه ليس مثل الخالي منه، مثل المثل العامي: الذي يده في الماء ليس مثل الذي يده في النار!.
إذًا معنى اسم الربّ: ربّنا يربّي العبد بأقداره، يجري عليه أقدار كي يكون في نهاية الأمر: كل معلومة يعرفها عن ربه؛ يتأكد يقينًا أنها صحيحة.
لمّا نخرج من البيت ماذا نقول؟
((بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ))[14] لكن هل نحن في قلوبنا متبرِّئون مِن حولنا وقوتنا إلى حول الله وقوته؟!
مَن عنده سيارة عند الباب وسائق، وهو نازل الدرج يقول: يارب يسر لي الذهاب، وإن شاء الله أصل... أو أنه متأكد أن السيارة عند الباب، وانتهى الموضوع؟!
نختلف على حسب قوة تبرؤنا من حولنا وقوتنا، مَن هذا الذي يرى سيارته عند الباب ثمّ مع هذا يقول يارب يسر لي الطريق وأن نصل...؟
الذي ربنا رباه, وعرف أن الشيء يكون تحت يده، ومع ذلك قد لا يكون سببًا لوصوله ولا لكذا وكذا...
· لمّا يأتيك طفل صغير وتقول له: أمامك هذا الشيء، أمامك سيارتك التي تركبها وتذهب بها، ومع كذا لا تثق أنك ستصل، يرد عليك: سأصل! ولم لا أصل؟! سأركب السيارة وأصل.
نقول هذا لم يتربَّ بعد.