نظر للحديث: (فَيَحْتَسِبُهُ) هذا هو الشرط، فلا ينفع أنه فقط يتوفى ويبتلى بالبلوى وتكون في ميزانه، لابد أن تُعامِل الموقف بالصبر، إذن كل المنغصات -حتى الشوكة يشاكها- فرصة لتثقيل الميزان، وهل خلوت في ليلة مِن شوكة تشاكها أو أعلى من ذلك؟ ما خلوت ولو بضيق في الصدر، فانظر إلى أي درجة تُفتح لك الأبواب الواسعة من أجل أن تثقل ميزانك، لكن نحن لا نعرف أن نقرأ أفعال الله كما ينبغي، أميّين!
لا نعرف أن هذا الولد الذي كدّر علينا حياتنا -في الصورة الظاهرية- أنه سبب لتثقيل ميزاننا
ولا نعرف أن هذا الزوج الذي لم يستقم فمرة راضٍ ومرة ينقلب، سبب لتثقيل ميزاننا وأنه باب واسع من أجل أن يثقل ميزانك.
فتأتي هذه الأعمال ويكون وزنها عظيم في مقابل عمل بسيط قمت به وهو أنك حبست نفسك أن لا تعترض عليه ولا تنتقد فعله -سبحانه وتعالى-، بل تقول: هذا باب فُتح لتثقيل الميزان. ولذلك لما فَقَدَت النساء هذه النظرة تجد منهنّ دفعًا لأبواب تثقيل الميزان، فترتفع نسبة الطلاق؛ لأنها تريد أن تنتهي من المشكلة! وأنت لن تَخْلُص أبدًا لأنك هنا في الدنيا ولم يقال لك أن هذه دار الاستقرار والراحة، فاليوم هذا زوج واحد فَهِمْته، يكفي أني فَهِمْته وعرفت أنه ابتلاء عليّ، الحمدلله، فأصبر من أجل أن يثقل ميزاني. لكن نحن نُجزّع أنفسنا والناس أيضا يُجزّعوننا، ويغلقون علينا باب تثقيل الميزان.
مشكلتنا في الأميّة عن معرفة الله، تجد الشخص مثقفًا، ويقرأ جرائد الصباح من أولها لآخرها، وصفحات الانترنت يقرؤها، وفي نهاية الأمر تجده أميًا لا يعرف قراءة أفعال الله، فهذه الأميّة هي التي نشتكي منها اليوم وهي أنك لا تعرف أن تترجم بالضبط لماذا يحصل هذا حولك، وكل الذي تقوله أنه ليس لك حظ وليس لك نصيب.
انظر لهذا الولد الصالح الذي يتوفى للمرء المسلم فيكون سببًا لتثقيل الميزان لو احتسب، ويكون بالعكس سببًا لتخفيفه لو جزع!
فاحذر أن تكون على المصائب والبلاءات بأنواعها جازعًا، فهذا سبب لتخفيف ميزانك، وكن متمسكًا بالصبر فما أنت إلا في عنق الزجاجة، كل الناس مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم، كلهم يخرجون من الكروب، لكن القضية أنه لما تنكشف الغمّة تنكشف عن أي قلب؟ قلب مستسلم لربه شاكر متعلق، أم قلب كفر بنعم الله وشعر بأنه لا حظّ له وأن ربه لا يحبه.
أهم شيء بعد الأزمة تنكشف الغُمّة عن أي قلب، ولذلك بورك لك في حاجة أظهرْتَ فيها الذل لله، الحاجة المباركة هي التي تُكْثِر فيها الذل لله، هذا مِن جهة الصبر.
أما مِن جهة الشكر فحدّث ولا حرج مِن الغفلة عن هذا الباب الذي يثقل الميزان، فكم مِن نِعَم تترى لا تستطيع أن تعدّها
هل أكلّمك عن نعمة الأمن والأمان والفطرة السوية والإيمان وأن الناس يحترمون أهل الإيمان؟
أم أكلّمك عن أي شيء مِن النِعَم؟ العامة التي نشترك بها أم الخاصة التي تخصك؟
ثم تترك هذا كله وتبحث عما يكدّر وتُخرِجه مِن تحت الأرض! والشيطان لما يسيطر على القلوب في منعها من الشكر يصبح عند الناس خيال فيما يُكدّرهم، يعني امرأة مثلا ليس هناك شيء في الواقع يكدرها، فلما تستلقي على فراشها وتفكّر، تبدأ تتخيل أشياءً سيئة ستحصل، وأن زوجها المحترم الذي يحبها تكتشف أن له علاقة، كل هذا بخيالها، تتخيل أنه يخون، وتتخيل أن أبناءها سيتزوجون ويتركونها ويرمونها! مِن أجل أن تعرف كيف يُخرج الشيطان مِن قلبك ما يجعلك به كافرًا لأنعم الله.
لذلك لا تجد ذِكْرًا إلا ثقيلًا، وانظر لضعف أذكار الصباح والمساء، لأن القلب ليس شاعرًا للنعم فانقطع اللسان عن الذكر النشيط، فـ لا إله إلا الله والحمدلله وسبحان الله والله أكبر كلها تحتاج لقلب ولا تحتاج لمجرد لسان، ولذلك انظر لما يكون الذكر بمجرد اللسان، فتقول (لا إله إلا الله) وأنت تفكر في هذا وهذا، وأهم شيء عندك أن تخرج بمائة من العدد، أما ماذا كان في قلبك؟ فلا شيء! هذه لا تثقل ميزانك بمجرد الكلام إنما ستثقله بما وَقَعَ في الجنان.
قد تسأل فتقول: هل هذا يعني أنه لو لم يكن قلبي حاضرا أن لا أذكر؟ نقول: هذه حيلة الشيطان، فحيلة الشيطان أن يقول لك: ليس قلبك حاضرا إذن فاترك العمل، ونحن نقول: درّب قلبك واجتهد، مائة مرة قلها واجعل من المائة مرة واحدة قلت فيها الذكر وقلبك موجود، هذا اليوم، ثم إلى الأسبوع القادم اجعل عشرة من المائة قلبك موجود فيها، وأكمل الباقي بدون قلبك؛ لأن الإيمان يزيد فكلما زاد في القلب كلما وجدت قلبك، زِدْ وابحث عن قلبك، وستجد قلبك لما تبحث لا لما تقتنع من نفسك أنه يكفي بلساني وقلبي ليس موجود.
هذه الكلمات تزيد ميزانك إذا جمعت في قلبك بين الذكر والشكر لله -عز وجل-
وكلما فهمتها، زاد حضور قلبك.
* ورد في الحديث: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ))[22].
الذكر عنوان الشكر وهو سبب لتثقيل الميزان، فلما تُحب أحدًا وتشعر أنه أنعم عليك وأعطاك تجد أنك كلما تجلس مجلسًا تذكره وتدعو له، فإذا كنت لربك شاكرًا وتشعر بالنعم العظيمة التي تغرق فيها ستكون له ذاكرًا، كثير الذكر، لكن تأتي علّة أني لا افهم معاني الذكر، ولذلك مِن زيادة التدريب أن تقرأ معاني الأذكار، خذ في ذلك كتاب "فقه الأدعية والأذكار" للشيخ عبد الرزاق البدر.
* ومِثْلُه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآَنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))[23].
وتملأ الميزان ليس بأن تثقله فقط إنما تملؤه، فما هي الكلمة التي تملؤه؟ (الحمدلله)، لأن الحمد أعظم تعبير عن الشكر لله -عز وجل-، فلما يمتلئ قلبك له حمدًا وشعورًا بنعمه وعطاياه واستحقاقه أن لا يُثنى إلا عليه سيخرُج مِن لسانك الحمد كما ينبغي وُيملأ ميزانك بذلك.
أي عمل غير الذكر محدود بزمان، بمكان، بأوضاع، وهناك أعمال كثيرة يُعذر تاركها أحيانًا، إلى أن نأتي إلى الذكر ونقول لا، فلا يُعذر تاركه من جهة، ولا يأتي زمن يخلو من الذكر من جهة أخرى، لو كنت مُحبًا صادقًا مشتاقًا فلن تأتي لحظة تخلو فيها من الذكر، لكن نحن طبيعتنا الغفلة، لن نطالب نفسنا بما لا نستطيع، لكن قمة المسألة أنه لن تخلو لحظة من ذكر، والذكر ليس شرطًا باللسان، إنما تفكير في آلائه وعطاياه، أي أن أفكر بأن هذا ما أتاني إلا لأن ربي دبّرني، وهذا ما ذهب إلا لأن ربي دبّرني، فهذا تفكير في آلائه وعطاياه، وليس مِن مرة واحدة سيكون هذا حالك، إنما كلما زدت علمًا عنه وكلما ترك قلبك الاشتغال بغيره وتفرغت وتفرغت كلما ازدادت هذه الحالة، وأحيانًا يأتي زمن تشعر نفسك فيه في قمة هذه الصورة، وأحيانًا تنحدر، لا بأس، المهم أن يرى الله -عز وجل- مِن قلبك إقبالًا عليه وصدقًا في ذلك {إن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}[24]. كُن مُقبلاً فقط، وسترى، فكلما غفلت وعُدت إليه وحصل الإياب والعودة إليه -سبحانه وتعالى- سيغفر لك زمن الغفلة، والغفلة هذه مِن طبعنا لا يمكن أن نتخلّص منها، لكن كلما قَلّت كلما اقتربت منك المغفرة على زمن الغفلة.
مما يثقل الميزان:
حسن الخلق
قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ))[25].
نتعرف أولًا عن حقيقته مادُمنا نتكلم عن تثقيل الميزان، وهل يمكن أن يكون حُسن الخلق بغير قلب؟
حُسن الخلق كمقياس متداول: اللباقة والكلام الجميل، والأعمال.. لكن ليس وراءها قلب، أي أنني قد أقول كلامًا جميلاً لكن مقصدي منه المصلحة، أتصرف تصرفًا جيدًا لكن مقصدي تحقيق الذات، قد يقول البعض: (أنا أعاملك بالطيّب ليس لأنك طيب إنما لأني شخص محترم!) تحقيق الذات، الثناء على النفس.
الخلق الحَسَن في الظاهر هو كل السلوكيات المقبولة شرعًا وعرفًا.
السؤال: هل هذا السلوك منفردًا هو الذي سيثقل الميزان؟
لا، ولا تنس النقطة الثانية التي تناقشنا فيها، لازلنا نستصحبها، لا يكفي أن نقول بألسنتنا ولا يكفي أن نتصرف بجوارحنا إنما لابد مِن وجود قلوبنا، ورد في كتاب الله ثلاثة نصوص:
1. أمْر: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}[26] في الصورة الظاهرية، يعني قولوا كلامًا حسنًا جميلاً (على وجه المدح).
2. مَثَل في سورة المنافقين: {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}[27].
3. وفي سورة البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}. أيضًا قال كلام جميل (على وجه الذم).
ما الفارق بين {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} على وجه المدح وبين{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} على وجه الذم؟
الفارق بين الاثنين ما وقع في القلب! الاثنان قالا كلامًا حسنًا لكن أحدهما جاء على وجه المدح، والآخر جاء على وجه الذم، ففي سورة المنافقين {وَإِن يَقُولُوا} يعني من شدة حلاوة كلامهم {تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يعني تلتفت ويطربك قولهم مِن كثرة الذوق والكلام الجميل، وهم في آخر الأمر منافقين!
إذن ما موقفي مِن القول الحسن بناءً على هذا؟ القول الحسن مطلوب، أما العيب فليس في الكلام الحَسَن إنما العيب في قلْب صاحب الكلام، وكأننا نقول أن حُسن الخلق ليس مظهرًا إنما مَخْبرًا أحْسَنَ صاحبه في التعبير عنه، لأن هناك أناس كثيرون مَخْبرهم جيد لكنهم لم يُدرّبوا على ترجمته بصورة حسنة، فهناك ناس كُثُر تشعر كأنهم صفحة بيضاء، هؤلاء ينقصهم خطوة من أجل أن يثقل ميزانهم وهي أن يُدرّبوا على حُسْن الخلق.
إذن أنا أولًا سأبحث عن قلب، ثم أتدرب على التعبير عن هذا الذي في القلب الحسن بكلام حَسَن، ثم أنك في نهاية المطاف ستجد شيئًا عجيبًا كقاعدة في حسن الأخلاق، هذه القاعدة تقول لك: لا تُكلّم ولا شخص عن حُسْن الخلق إذا كنت تريد أن تكون حَسَن الأخلاق، فقاعدة حُسْن الخلق (أن لا تطالب الناس بحُسْن الخلق)، إنما درّب نفسك أنت أو مَن تحت يدك إذا كنت تربي.
فمثلا مِن أجل أن يكون عندك خُلق حَسَن كالعفو وصلة الأرحام، متى سيحصل منك هذا الخُلق الحَسَن الذي هو العفو؟ إذا أخطأ عليك شخص، يعني لن يَخْرُج منك هذا الخُلُق الحسن لأن الناس أخلاقهم حسنة! بالعكس، سيخرُج منك هذا الخُلق الحَسَن لما هم يصبح عندهم تقصير.
في المقابل: مَن الذي اسمه (واصل) في الشرع؟ ((لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا))[28]، فلما تريد أن تتعامل مع شخص هو أخلاقه حسنة هل ستحتاج شيئا كثيرًا؟ لا، هو سيغمرك بحُسْن خُلُقه إلى درجة أنك لا تجد لنفسك مكانًا لأن تمارس حُسن الخلق معه إنما أنت تجلس وهو يكون كأنه مُدرّس لك.
وحُسْن الخلق دائر في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} وهذا ليس كلامنا؛ فالله -عز وجل- يخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له {خُذِ الْعَفْوَ} ما معنى خُذ العفو؟ هذه الآية في سورة الأعراف قال عنها أهل العلم: "جماع الأخلاق فيها"، فإذا أردت أن تتخلق فخُذ هذه الثلاثة: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
خُذ العفو: يعني خُذ مِن أخلاق الناس ما عفت عنها، يعني ما خرج منهم اقبله، لأن صاحب الأخلاق لا يُطالِب الناس بالأخلاق.
وأمر بالعرف: حتى وأنت تأمر بالعُرْف وتُعلّم الناس الأخلاق المفترض أن تجتهد في تعليمهم التعامل مع الله أولًا، فالأخلاق مع الناس فيها مصالح متبادلة: منها ماهو لي أنا، فأنا واحد من الناس الذين سيستفيدون من أخلاقك الحسنة، لكن لما تصحّ أخلاقك مع الله، فأنا لست المستفيد المباشر من ذلك، لكن على المدى الطويل أنت يامَن صحّت أخلاقه مع الله ستكون صحة أخلاقك مع الله نافعة لك ونافعة لكل الناس حولك.
ما هي الأخلاق التي ستثقل ميزانك والتي ستكون بسببها قريبًا من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
الترجمة الحاصلة لهذه الأخلاق خاطئة، والترجمة هي مجرد سلوكك مع الناس، هذه هي الأخلاق عندنا! أما أنت مِن الداخل مَن تكون وهل قبيح مع ربك وما مقصدك من التخلق ليس مهمًا عندنا! وقد قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ثم في الموطن الثاني {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}فالكلام الحَسَن باطل اجتمع مع ظاهر، وأكيد أنكم تأذيتم مِن أناس كثيرين، فالمطالبة بالأخلاق في العادة تكون بسبب الأذية الحاصلة.
في المقابل: لابد أن تعرف كيف ستزرع الأخلاق، فلا تدُور على الناس وتبحث عن أخلاقهم وتُربّيهم، هذا أول خطأ ترتكبه، إذا أردت أن تتكلم عن الأخلاق فكلِّم نفسك وكلِّم مَن تحت يدك مِمن تربيهم، أما الناس حولك فلا يُربيهم إلا الله، وإذا كنت لهم ناصحًا فكن لهم ناصحًا مُخلِصًا، لا تأتي إلى جارك وهو لا يصلي فتقول: (إذا لم يصلي فهذا الأمر عائد على نفسه) ثم في المقابل تأتي تعطيه مطوية فيها آداب الجوار وتتكلم عن حقوق الجار على الجار! ولماذا إذن لم تُحْضِر له مطوية تتكلم عن الصلاة وعن وجوبها جماعة؟! لماذا بحثت عن آداب الجوار؟ من أجل أنك تبحث عن مصلحتك!
ولذلك في مكاتب الإصلاح تُكْشَف الحقائق، لما تكون المرأة غاضبة مِن زوجها تتكلم عن أخلاقه غير الحسنة، ثم في النهاية تقول لي (وهو أيضا لا يحافظ على الصلاة)! الآن بعد عشرين سنة تقولين أنه لايحافظ على الصلاة! فلما تسألينها: منذ متى وهو لا يحافظ على الصلاة؟ تقول (مِن زمان، مِن أول ما تزوجته)! فلماذا بعد عشرين سنة تأتين لتشتكي عليه؟! لمّا ظهرت منه الأخلاق غير الحسنة! في الأول كانت تحبه فأغمضتْ عينيها عن صلاته، والآن بعدما بغضته أخرجتْ عامل الضغط الذي به تضغط على أنه لا يَصْلُح زوجًا.
فهذه الصورة التي نستعمل فيها الأخلاق، نستعملها للمصالح للأسف، فمثلا المعلمة لاتفكر في أي شيء إلا في أن تقوم المدْرسة بعمل دورة عن احترام المعلم، واحترام الحصة، أما احترام الله واحترام القرآن وكل ما تراه متفلتًا أين نحن عنه؟!
ندُور فقط في دائرة الأخلاق التي تسير في خط مصلحتنا. هل يعني هذا أن نترك الأخلاق ولا نتكلم عنها؟ لا، ولابد أن تفهم أصلًا من أين تأتي الأخلاق وما هي الأخلاق المرضيّة التي تُرضي الله وليست مجرد سلوك مزيف، لأن هذا السلوك المزيف لابد أن تأتي اللحظة التي ينكشف فيها الزيف.
قواعد قرآنية لأخلاق مرضية :
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴿24﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا} أي ثمراتها {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} .
الشجرة أصل في الأرض ولها فرع في السماء ولها ثمرة تَخْرُج. فما أصلها؟ هذه الصورة الممثّل بها، فما هي الصورة فيك يا أيّها المؤمن؟
أصل هذه الشجرة كلمة (لا إله إلا الله) في قلبك، شهادة التوحيد والإيمان وأصول الدين كلها.
وفروعها القيام بشرائع الدين الظاهرة والباطنة مِن حقوق الله وحقوق الخلق.
أي أن في قلبك أولاً شهادة أن لا إله إلا الله، تريد أن تُعامل الله فتكون النتيجة الفرع الذي سيخْرُج ويطلع في السماء، ستأتي لكل شخص وتقول (هذا له عليّ حق، وهذا له عليّ حق)، فستنظر إلى كل الناس على أن لهم حقوق، وحتى لو لم يطالبوك بالحقوق فأنت في قلبك خوف شديد أن لا تستطيع القيام بحقوقهم، لأنك تعرف أن مَن سيُحاسبك على حقهم هو الله، وهذا هو التقيّ النقيّ صاحب الخُلُق العليّ، عِلْمُهُ عن الله متأصل في قلبه وثابت. واسمع لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ}، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} فهو يفهم أن الله مُطّلع على قلبه، فماذا يفعل في نفسه؟
يكون حريصًا على القيام بحقوق الناس، وحقوق الناس ليست الحقوق المالية فقط بل حتى الحقوق المعنوية: يخاف أن يأتي إلى السلام الشرعي الذي هو حق للمسلمين ولا يقوم به، يخشى أن يأتي فيظْهَرَ مِن ملامح وجهه الكدر ولا يتبسم في وجوه إخوانه مع أن لا أحد لامَهُ على ذلك، لكنه يعلم أن هذا حق أحقّه الله وسيُحاسَب عنه، ففي تفكيره أن ما يقوم به مِن أخلاق ليس تفضُّلًا منه إنما مِن حقوق المسلمين عليه، وكلما زادت العلاقات كلما زادت الحقوق، ولذلك مِن كثرة خوفه من الحقوق وحمْل همّها لما يأتي ينام في آخر اليوم يقول الدعاء: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنْ الْفَقْرِ))[29]، ما معنى ((اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ))؟ هذه من أذكر النوم فكل الناس يقولونها، فلا تتصور أن الدَّين مبلغ من المال لأحد عليك، إنما الدين الحقوق، حقوق الله وحقوق الخلق، فهذا الشخص يأتي ينام فيفكّر، وأهم همومه أن لله عليه حقوق وللخلق عليه حقوق ولا يمكن أن يحقق هذه الحقوق أو يقوم بها بنفسه، فيستغيث بالله وبأربعة أسماء من أعظم الأسماء، وكأنه يقول: (يا مالك الأسباب سبِّب لي أسباب القيام بالحقوق، يا مَن تُعطي الأسباب نتائجها أعطني نتائج قيامي بالحقوق، يا مَن هو الظاهر الذي أمره نافذ هيّء لي الأسباب وسهّل لي الوصول إليها، يا مَن هو باطن ويعلم ما في قلبي أُظْهِر لك مِن قلبي صدق إرادة القيام بالحقوق).
فهذا الذي يحْمِل هَمّ الأخلاق السوية وأن يقوم بحقوق الخلق ما استطاع، ولذلك لا يُلام على التقصير لأن فلان لا يعرف حقه وعلاّن لا يعرف حقه، فهو بداخله مثل النار، يريد أن يقوم بكل الحقوق مِن أجل الله، ولذلك ورد عن عبدالله ابن المبارك أنه كان يتصدق في آخر المدينة على امرأة عمياء فكان يذهب إليها، وكان له مكانة فكان أصحابه يقولون له أنه لا حاجة للوصول إليها وهي عمياء فلن تراك، فقال: لكن الله يراني ويرى سعيي مِن أجل عطائها، وأنا لا أحسب حساب أنها عمياء.
ومِثْلُهُ عن غيره أنه أَمَرَ أهله أن يصنعوا طعامًا فاخرًا ودخل عليه رجل به خبال في عقله، لا يفهم، فأطعمه مِن هذا الطعام الفاخر، وكان الرجل يأكل ويسيل منه وهو يمسح له ويُطعمه، فكان أهله يقولون له هل تُعطي هذا الطعام لهذا الذي لا يعقل ماذا يأكل!، فقال: ولكن الله -عز وجل- يَعْلَم، يعلم هذا الفعل مني فيقبله فيثقل ميزاني.
فالقصة ليست في مَن هو أمامي وهل يعرف حقوقه أم لا، القصة في أني مِن قلبي أرى أن هذا حق لابد أن أقوم به، لكن متى؟ لا يُبنى هذا إلا مِن قلب فيه معرفة بالله، فلما تَعْرِف الله سترى الله مِن وراء كل الناس، ولذلك اعبد الله كأنك تراه، لأنك ترى الله مِن وراء كل الناس الذين تعاملهم، فهذا لا تُخْلِف موعده، وهذا تعطيه مِن وقتك، وهذا تعرف أنك لما تقول له كلمة سينشرح صدره مع أنه ليس مطلوب منك لكنك تقف وتقول له الكلمة، لأن الله مكّنك وأعطاك فتقوم بالحقوق عليك.
هذا كله كلام عن الفرع، إذن ما الثمرة؟
الثمرة ثواب عاجل أو آجل، وكذلك ما يكسوك الله به مِن خُلُق جميل وهدي حسن وسمت صالح، يكسوك الله به وليس أنت مَن تكسى به، ولذلك ورد في الحديث -انظر إلى الثمرة-((إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا)) لماذا أحبه؟ قام بالحقوق: حقوق الله وحقوق الخلق، أكثر ورود كلمة (يحب) فيها عمل مع الناس، المحسنين، المتقين، المتصدقين، هذه ثم إذا أحبه الله((دَعَا جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ ، فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ))وانظر من أين يأتيك الحب والخلق الحسن ((قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ))[30] هل تعرف مَن هم أهل السماء وما أعدادهم؟!
في الحديث ((أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعٍ إِلاَّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ))[31] تصوّر هذه السماء كلها وأهلها يُنادى فيهم أن أحبوا فلانًا لأن الله يحبه، فإذا أحبّه الله وأحبّه جبريل وأحبّته الملائكة يُوضع له القبول في الأرض، فذلك صاحِب الخلق السويّ مقبول عند الله.
الأخلاق لا توصف أنها حسنة إلا إذا بُنيت على اعتقاد حسن، وقد يأتي مباشرة الكلام في عقلك عن أهل الكفر وأخلاقهم.
ضُرب لك في المثل صورتان: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴿24﴾ تُؤْتِي أُكُلَهَا} والصورة الثانية شجرة أخرى لكنها خبيثة{اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ} أيّ موقف يزيلها.
• الأخلاق تنقسم إلى قسمين
• أخلاق تعبُّد
• وأخلاق تملُّق
لا تأتي أخلاق التعبد إلا مِن شخص استقر في قلبه لا إله إلا الله.
الأمر لازال يحتاج إلى مزيد نقاش وفهم دقيق لهذه المسألة، لكن على الأقل ذَكَرْنا مجمل الأعمال التي تسبب ثقل الميزان، وانتهينا بالكلام حول أن أثقل عمل يثقل الميزان هو الخلق الحسن، وقلنا: هات الخلق الحسن على اعتبار أنه حقوق للخلق، وكلما زادت عطايا الله عليك كلما وجب عليك أن تعطي الحقوق أكثر، ثم إذا أعطيت الحقوق خرجت منك الثمرات: أحبّك الله وأحبّك أهل السماء وكُتِب لك القبول في الأرض، فثقُل ميزانك يوم القيامة بخُلُق حسنٍ صحيح.
ختامًا ... اللقاء مكوّن من ثلاثة عناصر رئيسية:
1. مسألة ثقل الميزان بالباطن، ولا علاقة له بالظاهر، بدأنا بابن مسعود وسعد ابن معاذ -رضي الله عنهم أجمعين-، ثم جليبيب، وزاهر، ثم في النهاية قصة محمد ابن المنكدر مع الرجل المقنّع.
2. لماذا ميزان هؤلاء ثقيل؟ السبب شيءٌ وَقَرَ في القلب، فأتى السؤال عن القلب وماذا يجب أن يقع فيه من أجل أن يثقل ميزانك. إذا امتلأ القلب إيمانًا ومعرفة بالله جاء عمل القلب ثم أتت أعمال الجوارح، والذي يستقر في قلوبنا هو الذي يثقّل موازيننا.
3. الأعمال التي ورد في الشريعة أنها تثقل الميزان، لكن لا تتصور بعد العنصر الثاني أن هذه مجرد أعمال ستجري على لسانك أو في بدنك، لابد أن تفهم أن هذه الأعمال ستكون مبنية على عمل قلبك.
انتهى اللقاء، والحمد لله رب العالمين.
[1] طمرين : الطمرور: بضم الطاء مع شدها وسكون الميم: الذي لا يملك شئيا. الطمر بشد الطاء مع كسرها وسكون الميم الثوب الخلق . وفي الحديث : رب ذي خلقين أطاع الله حتى لو سأل الله تعالى أجابه.
[2] رواه مسلم في صحيحه؟
[3] سير أعلام النبلاء.
[4] رواه أحمد وهو صحيح.
[5] رواه أبو يعلى وهو حسن.
[6] رواه مسلم في صحيحه
[7] متفق عليه.
[8] رواه الترمذي وصححه.
[9] متفق عليه.
[10] متفق عليه.
[11] رواه البخاري في صحيحه.
[12] رواه مسلم في صحيحه.
[13] رواه مسلم في صحيحه.
[14] محمد : 29
[15] رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الألباني صحيح.
[16] الشعراء: 89
[17] آل عمران : 154
[18] صحيح ابن حبان.
[19] الأحزاب:41-43
[20] متفق عليه.
[21] رواه النسائي واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
[22] متفق عليه.
[23] رواه مسلم في صحيحه.
[24] الإسراء : 25
[25] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
[26] البقرة : 83
[27] المنافقون : 4
[28] رواه البخاري في صحيحه.
[29] رواه مسلم في صحيحه. بداية الحديث: عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ.. إلخ)).
[30] متفق عليه.
[31] المستدرك على الصحيحين للحاكم، قال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
http://zadaltareq.blogspot.com/2015/10/blog-post_18.html?m=1